فصل: ذكر خلع المعتز والمؤيد:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر بيعة المنتصر:

قد ذكرنا قتل المتوكل، ومن بايع المنتصر أبا جعفر محمد بن جعفر المتوكل تلك الليلة، فلما أصبح يوم الأربعاء حضر الناس الجعفرية من القواد، والكتاب، والوجوه، والشاكرية، والجند، وغيرهم، فقرأ عليهم أحمد بن الخصيب كتاباً يخبر فيه عن المنتصر أن الفتح بن خاقان قتل المتوكل فقتله به، فبايع الناس، وحضر عبيد الله بن يحيى بن خاقان، فبايع وانصرف.
قيل وذكر عن أبي عثمان سعيد الصغير أنه قال: لما كانت الليلة التي قتل فيها المتوكل، كنا في الدار مع المنتصر، فكان كلما خرج الفتح خرج معه، وإذا رجع قام لقيامه، وإذا ركب أخذ بركابه، وسوى عليه ثيابه في سرجه.
وكان اتصل بنا الخبر أن عبيد الله بن يحيى قد أعد قوماً في طريق المنتصر، ليغتالوه عند انصرافه، وكان المتوكل قد أسمعه، وأحفظه، ووثب عليه، وانصرف غضبان، وانصرفنا معه إلى داره؛ وكان واعد الأتراك على قتل المتوكل إذا ثمل من النبيذ، قال: فلم ألبث أن جاءني رسوله أن احضر، فقد جاءت رسل أمير المؤمنين إلى الأمير ليركب. قال: فوقع في نفسي ما كنا سمعنا من اغتيال المنتصر، فركبت في سلاح وعدة، وجئت باب المنتصر، فإذا هم يموجون، وإذا واجن قد جاءه فأخبره أنهم قد فرغوا من المتوكل، فركب فلحقته في بعض الطريق وأما مرعوب، فرأى ما بي، فقال: ليس عليك بأس؛ أمير المؤمنين قد شرق بقدح شربه فمات، رحمه الله تعالى.
فشق علي، ومضينا ومعنا أحمد بن الخصيب وجماعة من القواد حتى دخلنا القصر، ووكل بالأبواب، فقلت له: يا أمير المؤمنين! لا ينبغي أن تفارقك مواليك في هذا الوقت. قال: أجل، وكن أنت خلف ظهري، فأحطنا به، وبايعه من حضر، وكل من جاء يوقف، حتى جاء سعيد الكبير، فأرسله خلف المؤيد، قال لي: امض أنت إلى المعتز حتى يحضر، فأرسلني، فمضيت وأنا آيس من نفسي، ومعي غلامان لي، فلما صرت إلى باب المعتز لم أجد به أحداً من الحرس والبوابين، فصرت إلى الباب الكبير، فدققته دقاً عنيفأن فأجبت بعد مدة: من أنت؟ فقلت: رسول أمير المؤمنين المنتصر؛ فمضى الرسول، وأبطأن وخفت، وضاقت علي الأرض، ثم فتح الباب، وخرج بيدون الخادم، وأغلق الباب، ثم سألني عن الخبر، فأخبرته أن المتوكل شرق بكأس شربه، فمات من ساعته، وأن الناس قد اجتمعوأن وبايعوا المنتصر، وقد أرسلني لأحضر الأمير المعتز ليبايع.
فدخل، ثم خرج، فادخلني على المعتز، فقال لي: ويلك ما الخبر؟ فأخبرته، وعزيته وبكيت وقلت: تحضر، وتكون في أول من يبايع، وتأخذ بقلب أخيك، فقال: حتى يصبح، فما زلت به أنا وبيدون حتى ركب، وسرنا وأنا أحدثه، فسألني عن عبيد الله بن يحيى، فقلت: هويأخذ البيعة على الناس، والفتح قد بايع، فأيس، وأتينا باب الخير، ففتح لنأن وصرنا إلى المنتصر، فلما رآه قربه، وعانقه، وعزاه، وأخذ البيعة عليه.
ثم وافى سعيد الكبير بالمؤيد، ففعل به مثل ذلك، فأصبح الناس، وأمر المنتصر بدفن المتوكل والفتح.
ولما أصبح الناس شاع الخبر في الماخورة، وهي المدينة التي كان بناها المتوكل، وفي أهل سامرأن بقتل المتوكل، فتوافى الجند والشاكرية بباب العامة وبالجعفرية، وغيرهم من الغوغاء والعامة، وكثر الناس، وتسامعوأن وركب بعضهم بعضأن وتكلموا في أمر البيعة، فخرج إليهم عتاب بن عتاب، وقيل زرافة، فوعدهم عن أمير المؤمنين المنتصر، فأسمعوه، فدخل عليه فأعلمه، فخرج المنتصر وبين يديه جماعة من المغاربة، فصاح بهم وقال: خذوهم! فدفعوهم إلى الأبواب، فازدحم الناس وركب بعضهم بعضأن فتفرقوا وقد مات منهم ستى أنفس.

.ذكر ولاية خفاجة بن سفيان صقلية وابنه محمد وغزواتهما:

قد ذكرنا سنة ست وثلاثين ومائتين أن أمير صقلية العباس توفي سنة سبع وأربعين، فلما توفي ولى الناس عليهم ابنه عبد الله بن العباس، وكتبوا إلى الأمير بإفريقية بذلك، وأخرج عبد اله السرايأن ففتح قلاعاً متعددة منها: جبل أبي مالك وقلعة الأرمنين وقلعة المشارعة، فبقي كذلك خمسة أشهر.
ووصل من إفريقية خفاجة بن سفيان أميراً على صقلية، فوصل في جمادى الأولى سنة ثمان وأربعين ومائتين، فأول سرية أخرجها سرية فيها ولده محمود، فقصد سرقوسة فغمن، وخرب وأحرق، وخرجوا إليه فقاتلهم فظفر، وعاد فاستأمن إليه أهل رغوس؛ وقد جاء سنة اثنتين وخمسين أن أهل رغوس استأمنوا فيهأن على ما نذكره، ولا نعلم أهذا اختلاف من المؤرخين أم هما غزاتان، ويكون أهلها قد غدروا بعد هذه الدفعة، والله أعلم.
وفي سنة خمسين ومائتين فتحت مدينة نوطس، وسبب ذلك أن بعض أهلها أخبر المسلمين بموضع دخلوا منه إلى البلد في المحرم، فغمنوا منها أموالاً جليلة، ثم فتحوا شكلة بعد حصار.
وفي سنة اثنتين وخمسين ومائتين سار خفاجة إلى سرقوسة، ثم إلى جبل النار، فأتاه رسل أهل طبرمين يطلبون الأمان، فأرسل إليهم امرأته وولده في ذلك، فتم الأمر، ثم غدروأن فأرسل خفاجة محمداً في جيش إليهأن ففتحها وسبى أهلها.
وفيها أيضاً سار خفاجة إلى رغوس، فطلب أهلها الأمان ليطلق رجل من أهلها بأموالهم، ودوابهم، ويغمن الباقي، ففعل وأخذ جميع ما في الحصن من مال، ورقيق، ودواب، وغير ذلك، وهادنه أهل الغيران وغيرهم، وافتتح حصوناً كثيرة، ثم مرض، فعاد إلى بلرم.
وفي سنة ثلاث وخمسين ومائتين سار خفاجة من بلرم إلى مدينة سرقوسة وقطانية، وخرب بلادهأن وأهلك زروعهأن وعاد وسارت سراياه إلى أرض صقلية، فغمنوا غنائم كثيرة.
وفي سنة أربع وخمسين ومائتين ار خفاجة في العشرين من ربيع الأول، وسير ابنه محمداً على الحراقات، وسر سرية إلى سرقوسة فغمنوأن وأتاهم الخبر أن بطريقاً قد سار من القسطنطينية في جمع كثير، وغمن المسلمون منهم غنائم كثيرة؛ ورحل خفاجة إلى سرقوسة فأفسد زرعهأن وغمن منهأن وعاد إلى بلرم، وسير ابنه محمداً في البحر، مستهل رجب، إلى مدينة غيطة، فحصرهأن وبث العساكر في نواحيهأن فغمن وشحن مراكبه بالغنائم، وانصرف إلى بلرم في شوال.
وفي سنة خمس وخمسين ومائتين سير خفاجة ابنه محمداً إلى مدينة طبرمين، وهي من أحسن مدن صقلية، فسار في صفر إليهأن وكان قد أتاهم من وعدهم أن يدخلهم إليها من طريق يعرفه، فسيره مع ولده، فلما قربوا منها تأخر محمد، وتقدم بعض عساكره رجالة مع الدليل، فأدخلهم المدينة، وملكوا بابها وسورهأن وشرعوا في السبي والغنائم، وتأخر محمد بن خفاجة فيمن معه من العسكر عن الوقت الذي وعدهم أنه يأتيهم فيه، فلما تأخر ظنوا أن العدوقد أوقع بهم فمنعهم من السبي، فخرجوا عنها منهزمين، ووصل محمد إلى باب المدينة ومن معه من العسكر، فرأى المسلمين قد خرجوا منهأن فعاد راجعاً.
وفيها في ربيه الأول خرج خفاجة وسار إلى مرسة، وسير ابنه في جماعة كثيرة إلى سرقوسة، فلقيه العدوفي جمع كثير فاقتتلوأن فوهن المسلمون، وقتل منهم، ورجعوا إلى خفاجة، فسار إلى سرقوسة فحصرهأن وأقام عليهأن وضيق على أهلهأن وأفسد بلادهأن وأهلك زرعهم، وعاد عنها يريد بلرم، فنزل بوادي الطين وسار منه ليلأن فاغتاله رجل من عسكره، فطعنه طعنة فقتله، وذلك مستهل رجب، وهرب الذي قتله إلى سرقوسة، وحمل خفاجة إلى بلرم، فدفن بها وولى الناس عليهم بعده ابنه محمداً وكتبوا بذلك إلى الأمير محمد بن أحمد، أمير إفريقية، فأقره على الولاية، وسير له العهد والخلع.

.ذكر ولاية ابنه محمد:

لما قتل خفاجة استعمل الناس ابنه محمدأن وأقره بن أحمد بن الأغلب، صاحب القيروان، على ولايته، فسير جيشاً في سنة ست وخمسين ومائتين إلى مالطة، وكان الروم يحاصرونهأن فلما سمع الروم بمسيرهم رحلوا عنها.
وفي سنة سبع وخمسين ومائتين في رجب قتل الأمير محمد، قتله خدمه الخصيان وهربوأن فطلبهم الناس فأدركوهم فقتلوهم.

.ذكر عدة حوادث:

وفيها ولي المنتصر أبا عمرة أحمد بن سعيد، مولى بني هاشم، بعد البيعة له بيوم، المظالم، فقال الشاعر:
يا ضيعة الإسلام لما ولي ** مظالم الناس أبوعمرة

صير مأموناً على أمة ** وليس مأموناً على بعره

وحج بالناس محمد بن سليمان الزينبي، واستعمل على دمشق عيسى بن محمد النوشري.
وفيها سار جيش للمسلمين بالأندلس إلى مدينة برشلونة، وهي للفرنج، فأوقعوا بأهلهأن فراسل صاحبها ملك الفرنج يستمده، فأرسل إليه جيشاً كثيفأن وأرسل المسلمون يستمدون، فأتاهم المدد، فنازلوا برشلونة، وقاتلوا قتالاً شديداً فملكوا أرباضهأن وبرجين من أبراج المدينة، فقتل من المشركين بها خلق كثير، وسلم المسلمون، وعادوا وقد غمنوا.
وفيها توفي أبوعثمان بكر بن محمد المازني النحوي، الإمام في العربية.

.حوادث سنة ثمان وأربعين ومائتين:

.ذكر غزاة وصيف الروم:

في هذه السنة أغزى المنتصر وصيفاً التركي إلى بلاد الروم؛ وكان سبب ذلك أنه كان بينه وبين أحمد بن الخصيب شحناء وتباغض، فحرض أحمد ابن الخصيب المنتصر على وصيف، وأشار عليه بإخراجه من عسكره للغزاة، فأمر المنتصر بإحضار وصيف، فلما حضر قال له: قد أتانا عن طاغية الروم أنه أقبل يريد الثغر، وهذا أمر لا يمكن الإمساك عنه، ولست آمنة أن يهلك كل ما مر به من بلاد الإسلام، وسقتل ويسبي، فإما شخصت أنت، وإما شخصت أنا.
فقال: بل أشخص أنأن يا أمير المؤمنين. فقال لأحمد بن الخصيب: انظر إلى ما يحتاج إليه وصيف فأتمه له. فقال: نعم، يا أمير المؤمنين! قال: ما نعم؟ قم الساعة! وقال لوصيف: مر كاتبك أن يوافقه على ما يحتاج إليه ويلزمه حتى يفرغ منه. فقاما.
ولم يزل أحمد بن الخصيب في جهازه، حتى خرج، وانتخب له الرجال، فكان معه اثنا عشر ألف رجل، وكان على مقدمته مزاحم بن خاقان، أخوالفتح، وكتب المنتصر إلى محمد بن عبد الله بن طاهر ببغداد يعلمه ذلك، ويأمره أن ينتدب الناس إلى الغزاة ويرغبهم فيهأن وأمر وصيفاً أن يوافي ثغر ملطية، وجعل على نفقات العسكر، والمغامن، والمقاسم أبا الوليد الحريري البجلي؛ ولما سار وصيف كتب إليه المنتصر يأمره بالمقام بالثغر أربع سنين يغزوفي أوقات الغزومنها إلى أن يأتيه رأيه.

.ذكر خلع المعتز والمؤيد:

وفي هذه السنة خلع المعتز والمؤيد ابنا المتوكل من ولاية العهد؛ وكان سبب خلعهما أن المنتصر لما استقامت له الأمور، قال أحمد بن الخصيب لوصيف وبغا: إنا لا نأمن الحدثان، وأن يموت أمير المؤمنين، فيلي المعتز الخلافة، فيبيد خضراءنأن ولا يبقي منا باقية؛ والآن الرأي أن نعمل في خلع المعتز والمؤيد.
فجد الأتراك في ذلك، وألحوا على المنتصر، وقالوا: نخلعهما من الخلافة، ونبايع لابنك عبد الوهاب؛ فلم يزالوا به حتى أجابهم، وأحضر المعتز والمؤيد، بعد أربعين يوماً من خلافته، وجعلا في دار، فقال المعتز للمؤيد: يا أخي، قد أحضرنا للخلع؛ فقال: لا أظنه يفعل ذلك.
فبيمنا هما كذلك إذ جاءت الرسل بالخلع، فقال المؤيد: السمع والطاعة؛ فقال المعتز: ما كنت لأفعل، فإن أردتم القتل فشأنكم؛ فأعلموا المنتصر، ثم عادوا بغلظة وشدة، وأخذوا المعتز بعنف، وأدخلوه بيتأن وأغلقوه عليه الباب، فلما رأى المؤيد ذلك قال لهم بجرأة واستطالة: ما هذا يا كلاب؟ قد ضربتم على دمائنأن تثبون على مولاكم هذا الوثوب، دعوني وإياه حتى أكلمه! فسكتوا عنه، وأذنوا له في الاجتماع به بعد إذن من المنتصر بذلك.
فدخل عليه المؤيد وقال: يا جاهل تراهم نالوا من أبيك، وهوهو، ما نالوأن ثم تمتنع عليهم؟ اخلع ويلك، لا تراجعهم! فقال: وكيف أخلع وقد جرى في الآفاق؟ فقال: هذا ال أمر قتل أباك، وهويقتلك، وإن كان في سابق علم الله أن تلي لتلين. فقال: أفعل.
فخرج المؤيد وقال: قد أجاب إلى الخلع، فمضوأن وأعلموا المنتصر، وعادوا فشكروه، ومعهم كاتب، فجلس، فقال للمعتز: اكتب بخطك خلعك! فامتنع، فقال المؤيد لكاتب: هات قرطاسك! أملل علي ما شئت، فأملى عليه كتاباً إلى المنتصر يعلمه فيه ضعفه عن هذا الأمر، وأن لا يحل له أن يتقلده، وكره أن يأثم المتوكل بسببه، إذ لم يكن موضعاً له، ويسأله الخلع، ويعلمه أنه قد خلع نفسه، وأحل الناس من بيعته، فكتب ذلك، وقال للمعتز: اكتب! فأبى، فقال: اكتب ويلك فكتب وخرج الكاتب عنهمأن ثم دعاهمأن فدخلا على المنتصر، فأجلسهما وقال: هذا كتابكما؟ فقالا: نعم يا أمير المؤمنين. فقال لهمأن والأتراك وقوف: أتراني خلعتكما طعماً في أن أعيش حتى يكبر ولدي وأبايع له؟ والله ما طمعت في ذلك ساعة قط، وإذا لم يكن لي في ذلك طمع فوالله لأن يليها بنوأبي أحب إلي من أن يليها بنوعمي، ولكن هؤلاء، وأومأ إلى سائر الموالي ممن هوقائم عنده وقاعد، أحلوا علي في خلعكمأن فخفت إن لم أفعل أن يعترضكما بعضهم بحديدة فيأتي عليكمأن فما ترياني صانعاً إذن؟ أقتله! فوالله ما تفي دماؤهم كلهم بدم بعضكم. فكانت إجابتهم إلى ما سألوا أسه علي.
فقبلا يده وضمهمأن ثم أشهدا على أنفسهما القضاة، وبني هاشم، والقواد، ووجوه الناس، وغيرهم، بالخلع؟، وكتب بذلك المنتصر إلى محمد ابن عبد الله بن طاهر وإلى غيره.

.ذكر موت المنتصر:

في هذه السنة توفي المنتصر في يوم الأحد لخمس خلون من ربيع الآخر وقيل يوم السبت وكنيته أبوجعفر أحمد بن المتوكل على الله، وقيل كنيته أبوالعباس، وقيل أبوعبد الله.
وكانت علته الذبحة في حلقه أخذته يوم الخميس لخمس بقين من شهر ربيع الأول؛ وقيل كانت علته من ورم في معدته، ثم صعد إلى فؤاده فمات، وكانت علته ثلاثة أيام.
وقيل إنه وجد حرارة، فدعا بعض أطبائه، ففصده بمبضع مسموم، فمات منه، وانصرف الطبيب إلى منزله وقد وجد حرارة، فدعا تلميذاً ليفصده، ووضع مباضعه بين يديه ليستخير أجودهأن فاختار ذلك المبضع المسموم، وقد نسيه الطبيب، ففصده به، فلما فرغ نظر إليه فعرفه، فأيقن بالهلاك، ووصى من ساعته.
وقيل إنه كان وجد في رأسه علة، فقطر ابن الطيفوري في أذنه دهنأن فورم رأسه، فمات.
وقيل: بل سمه ابن الطيفوري في محاجمه فمات.
وقيل: كان كثير من الناس حين أفضت الخلافة إليه إلى أن مات يقولون: إمنا مدة حياته ستى اشهر، مدة شيرويه بن كسرى، قاتل أبيه؛ يقوله الخاصة والعامة.
وقيل إن المنتصر كان نائماً في بعض الأيام، فانتبه وهويبكي وينتحب، فسمعه عبد الله بن عمر البازيار، فأتاه، فسأله عن سبب بكائه، فقال: كنت نائمأن فرأيت فيما يرى النائم كأن المتوكل قد جاءني فقال: ويحك يا محمد! قتلتني، وظلمتني، وغبنتني خلافتي، والله لا متعت بها بعدي إلا أياماً يسيرة، ثم مصيرك إلى النار؛ فقال عبد الله: هذه رؤيأن وهي تصدق وتكذب، بل يعمرك الله، ويسرك، ادع بالنبيذ وخذ في اللهولا تعبأ بها. ففعل ذلك ولم يزل منكسراً إلى أن توفي.
قال بعضهم: وذكر أن المنتصر كان شاور في قتل أبيه جماعة من الفقهاء، وأعلمهم بمذاهبه، وحكى عنه أموراً قبيحة كرهت ذكرهأن فأشاروا بقتله، فكان كما ذكرنا بعضه.
وكان عمره خمساً وعشرين سنة وستة أشهر، وقيل أربعاً وعشرين سنة، وكانت خلافته ستة أشهر ويومين، وقيل كانت ستة أشهر سواء، وكانت وفاته بسامرأن فلما حضرته الوفاة أنشد:
وما فرحت نفسي بدنيا أخذتها ** ولكن إلى الرب الكريم أصير

وصلى عليه أحمد بن محمد بن المعتصم بسامرأن وبها كان مولده، وكان أعين، أقنى، ققصيرأن مهيبأن وهوأول خليفة من بني العباس عرف قبره، وذلك أن أمه طلبت إظهار قبره، وكانت أمه أم ولد رومية.

.ذكر بعض سيرته:

كان المنتصر عظيم الحلم، راجح العقل، غزير المعروف، راغباً في الخير، جوادأن كثير الإنصاف، حسن العشرة، وأمر الناس بزيارة قبر علي والحسين عليهما السلام، فأمن العلويين، وكانوا خائفين أيام أبيه، وأطلق وقوفهم، وأمر برد فدك إلى ولد الحسين والحسن ابني علي بن أبي طالب، عليه السلام.
وذكر أن المنتصر لما ولي الخلافة كان أول ما أحدث أن عزل صالح ابن علي عن المدينة واستعمل عليها علي بن الحسين بن إسماعيل بن العباس ابن محمد.
قال علي: فلما دخلت أودعه قال لي: يا علي! إني أوجهك إلى لحمي ودمي، ومد ساعده وقال: إلى هذا أوجه بك، فانظر كيف تكون للقوم، وكيف تعاملهم، يعني إلى آل أبي طالب. فقال: أرجوأن أمتثل أمر أمير المؤمنين، إن شاء الله تعالى، فقال: إذاً تسعد عندي.
ومن كلامه: والله ما عز ذوباطل ولوطلع القمر من جبينه، ولا ذل ذوحق ولوأصفق العالم عليه.

.ذكر خلافة المستعين:

وفي هذه السنة بويع أحمد بن محمد بن المعتصم بالخلافة؛ وكان سبب ذلك أن المنتصر لما توفي اجتمع الموالي على الهارونية من الغد، وفيها بغا الكبير، وبغا الصغير، وأتامش، وغيرهم، فاستخلفوا قواد الأتراك، والمغاربة، والشروسنية على أن يرضوا بمن رضي به بغا الكبير، وبغا الصغير، وأتامش، وذلك بتدبير أحمد بن الخصيب، فحلفوأن وتشاوروأن وكرهوا أن يتولى الخلافة أحد من ولد المتوكل لئلا يغتالهم، واجتمعوا على أحمد بن محمد بن المعتصم، وقالوا: لا تخرج الخلافة من ولد مولانا المعتصم، فبايعوه ليلة الاثنين لست خلون من ربيع الآخر وهوابن ثمان وعشرين سنة، ويكنى أبا العباس، فاستكتب أحمد بن الخصيب، واستوزر أتامش.
فلما كان يوم الاثنين سار المستعين إلى دار العامة في زي الخلافة، وحمل إبراهيم بن إسحاق بين يديه الحربة، وصف واجن الأشروسني أصحابه صفين، وقام هووعدة من وجوه أصحابه، وحضر الدار أصحاب المراتب من العباسيين والطالبيين وغيرهم.
فبينا هم كذلك إذ جاءت صيحة من ناحية الشارع والسوق، وإذا نحومن خمسين فارساً ذكروا أنهم من أصحاب محمد بن عبد الله بن طاهر، ومعهم غيرهم من أخلاط الناس والغوغاء والسوقة، فشهروا السلاح، وصاحوا: نفير، يا منصور! وشدوا على أصحاب الأشروسني فتضعضعوأن وانضم بعضهم إلى بعض، وتحرك من على باب العامة من المبيضة والشاكرية، وكثروأن فحمل عليهم المغاربة، وبعض الأشروسنية، فهزمزهم حتى أدخلوهم درب زرافة، ثم نشبت الحرب بينهم، فقتل جماعة، وانصرف الأتراك بعد ثلاث ساعات وقد بايعوا المستعين هم ومن حضر من الهاشميين وغيرهم.
ودخل الغوغاء والمنتهبة دار العامة، فانتهبوا الخزانة التي فيها السلاح، والدروع، والجواشن، والسيوف، والتراس، وغير ذلك، وكان الذين نهبوا ذلك الغوغاء، وأصحاب الحمامات، وغلمان أصحاب الباقلي، وأصحاب الفقاع، فأتاهم بغا الكبير في جماعة فأجلوهم عن الخزانة، وقتلوا منهم عدة، وكثر القتل من الفريقين، وتحرك أهل السجن بسامرأن وهرب منهم جماعة، ثم وضع العطاء على البيعة، وبعث بكتاب البيعة إلى محمد بن عبد اله بن طاهر، فبايع له هووالناس ببغداد.
ذكر ابن مسكويه في كتاب تجارب الأمم أن المستعين أخوالمتوكل لأبيه، وليس هوكذلك، إمنا هوولد أخيه محمد بن المعتصم، والله أعلم.

.ذكر عدة حوادث:

وفيها ورد على المستعين وفاة طاهر بن عبد الله بن طاهر بخراسان في رجب، فعقد المستعين لابنه محمد بن طاهر على خراسان، فلمحمد بن عبد الله بن طاهر على العراق، وجعل إليه الحرمين، والشرطة، ومعاون السواد، وأفرد به.
وفيها مات بغا الكبير، فعقد لابنه موسى على أعمال أبيه كلهأن وولى ديوان البريد.
وفيها وجه أبوجور التركي إلى أبي العمود الثعلبي، فقتله بكفرتوثي لخمس بقين من ربيع الآخر.
وفيها خرج عبيد الله بن يحيى بن خاقان إلى الحج، فوجه خلفه رسول ينفيه إلى برقة، ويمنعه من الحج.
وفيها أتباع المستعين من المعتز والمؤيد جميع مالهما وأشهدا عليهما القضاة والفقهاء، وكان الشراء باسم الحسن بن المخلد للمستعين، وترك للمعتز ما يتحصل منه في السنة عشرون ألف دينار، وللمؤيد ما يتحصل منه في السنة خمسة آلاف دينار، وجعلا في حجرة في الجوسق، ووكل بهمأن وكان الأتراك حين شغب الغوغاء أرادوا قتلهمأن فمنعهم أحمد بن الخصيب وقال: لا ذنب لهأن ولكن احبسوهمأن فحبسوهما.
وفيها غضب الموالي على أحمد بن الخصيب في جمادى الآخرة، واستصفى ماله ومال ولده، ونفي إلى إقريطش.
وفيها صرف علي بن يحيى الأرمني عن الثغور الشامية، وعقد له على أرمينية وأذربيجان في شهر رمضان.
وفيها شغب أهل حمص على كيدر عاملهم فأخرجوه، فزجه إليهم المستعين الفضل بن قارن، فأخذهم، فقتل منهم خلقاً كثيرأن وحمل منهم مائة من أعيانهم إلى سامرا.
وفيها غزا الصائفة وصيف، وكان مقيماً بالثغر الشامي، فدخل بلاد الروم، فافتتح حصن فرورية.
وفيها عقد المستعين لأتامش على مصر والمغرب، واتخذه وزيراً.
وفيها عقد لبغا الشرابي على حلوان وماسبذان ومهر جانقذق، وجعل المستعين شاهك الخادم على داره وكراعه، وحرمه، وحراسه، وخاص أموره، وقدمه وأتامش على جميع الناس.
وحج بالناس هذه السنة محمد بن سليمان الزينبي.
وفيها حكم محمد بن عمروأيام المنتصر. وخرج بناحية الموصل خارجي، فوجه إليه المنتصر إسحاق بن ثابت الفرغاني، فأسره مع عدة من أصحابه، فقتلوا وصلبوا.
وفيها تحرك يعقوب بن الليث الصفار من سجستان نحوهراة.
وفيها توفي عبد الرحمن بن عدويه أبومحمد الرافعي الزاهد، وكان مستجاب الدعوة، وهومن أهل إفريقية.
وفيها سارت سرية في الأندلس إلى ذي تروجة، وكان المشركون قد تطاولوا إلى ذلك الجانب فلقيتهم السرية، فأصابوا من المشركين، وقتلوا كثيراً منهم.
وفيها كان بصقلية سرايا للمسلمين، فغمنت وعادت، ولم يكن حرب بينهم تذكر.
وفيها توفي أبوكريب محمد بن العلاء الهمذاني الكوفي في جمادى الآخرة، وكان من مشايخ البخاري ومسلم، ومحمد بن حميد الرازي المحدث.